مقالات
عمرة وحج البدل(1)
ا.د محمود الصاوى
من الطاعات الكبرى زيارة بيت الله الحرام للعمرة والحج، فالحج بإجماع فقهاء المسلمين فريضة وركن من أركان الإسلام الخمسة على المستطيع، وذلك لقوله – تعالى- { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، وقول رسولنا الأكرم:« بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَان»،والعمرة مختلف فيها بين الفقهاء فابن حبيب من المالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة يرونها واجبة كالحج، بينما الحنفيَّة وجمهور المالكيَّة يرونها سنة مؤكدة، وسبب الخلاف يرجع إلى اختلافهم في فهم المراد من قوله – تعالى- : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، حيث يرى الشافعيَّة والحنابلة أنَّ الأمر بإتمامهما يدل على التسوية بينهما في الحكم، وحيث إنَّ الحج فريضة من دون خلاف فتكون السنة كذلك، بينما يرى الحنفيَّة والمالكيَّة أنها سنة، حيث أوجب الله على الناس الحج فقط في قوله :{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا }، وأنَّ الرسول لم يجعلها من أركان الإسلام حين قال :” :«بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ » ويرون أنَّ المراد بالإتمام هو لمن شرع في أداء النسك وباشر بعض أعماله فعليه إتمامه، وليس في الآية بيان لحكمهما أصلًا؛ ولأنَّ العمرة لو كانت كالحج لاقتضى هذا أن تكون أركان الإسلام ستة ، وحيث إنَّ الرسول حصرها في أربعة فلا تكون العمرة من الأركان.
واعتبار العمرة سنة أيسر للناس طالما وقع فيها الخلاف، لا سيما عند الغلاء وارتفاع التكلفة، ولأنَّ الأركان لا يختلف عليها بين العلماء، حيث إنها ثبتت بالأدلة القطعيَّة، وهذا غير متحقق في العمرة.
والحج وكذا العمرة على رأي القائلين بفرضيتها يطلبان في عمر الإنسان مرة واحدة، فعنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لاَ، وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .
وإذا كان الحج وهو فريضة طلب في العمر مرة فتكون العمرة كذلك من باب أولى، والعمرة والحج عبادتان يراد بهما الاختبار البدني والمالي، إضافة إلى اختبار ترك الوطن والأهل طلبًا لطاعة الله – عز وجل- وقد ظهر في الآونة الأخيرة بعد الأزمة الاقتصاديَّة العالميَّة، وانعكاساتها على غالب دول العالم ومنها مصرنا، و تغيُّر أسعار الصرف وارتفاع سعر الريال السعودي في مقابل الجنيه المصري بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع تكلفة العمرة والحج إلى أرقام كبيرة، وصعوبة الحصول على الريالات التي يحتاجها المعتمر أو الحاج، وبحث الشركات التجاريَّة عن مسالك ربحيَّة، ظهرت فكرة ما يسمى بعمرة البدل، وتقوم الفكرة على تولي أشخاص يقيمون في المملكة العربيَّة السعوديَّة، أو شركات تجاريَّة لها رجال هناك سواء أكان مقرها في المملكة أم خارجها ، بأداء النُّسُك نيابة عن الغير، وهو في مكانه وبلده، بمقابل مادي هو أقل بكثير من التكلفة الماليَّة التي يتحملها من ذهب بنفسه لأداء العمرة ، و ربما تعلن هذه الشركات لاحقًا عن ضم خدمة حج البدل إلى خدماتها كالعمرة؛ ولذا وجب دراسة الأمر من الناحية الشرعيَّة ، حتى يكون الناس على بيّنة من أمرهم ، قبل إقدامهم على التعاقد مع هؤلاء الأشخاص أو الشركات لأداء العمرة بدلًا عنهم!!
وبادئ ذي بدء فكما أشرت سابقًا إلى أنَّ العمرة والحج عبادتان بدنيتان، يراد بها اختبار الإنسان في ماله كما ابتُلي في الزكاة، وكذا في بدنه كما في الصلاة والصوم، فكانت عبادة العمرة وكذا الحج يجمعان بين الاختبارين في آن واحد وشعيرة واحدة ، خلافًا لبقيّة العبادات التي يكون بعضها بدنيًّا كالصلاة والصيام وبعضها ماليًّا كالزكاة، وتحقيق مراد الخالق من العبادة هو الذي يحقق حكمة مشروعيتها؛ ولذا فلا خلاف بين فقهاء المسلمين سلفًا وخلفًا أنَّ القادر بماله ونفسه لا يجوز له أن يستنيب غيره للعمرة أو الحج عنه، لما في ذلك من تضييع شقٍّ مهم من الابتلاء المراد وهو الابتلاء البدني من دون عذر، وقد نقل كل من ابن المنذر وابن قدامة وابن حجر الإجماع على عدم جواز إنابة القادر غيره لأداء النسك نيابة عنه، وعلى ذلك فإنَّ عمرة البدل عن القادر بنفسه على أدائها باطلة، ولا تسقط النسك عمن أُدِّيَت عنه، ويلزمه على رأي القائلين بوجوبها أن يؤديها بنفسه، وعلى رأي القائلين بسنيتها يفوته الثواب فضلًا عن خسارة ماله الذي دفعه إلى مَنْ أدى عنه العمرة، فإذا كان البدل في حج الفريضة فكذلك يبقى الحج في ذمَّة مَنْ وكَّلَ غيره ويكون كغيره ممن لزمه الحج ولم يحج، ولا تسقط عنه فريضة الحج إلا بعد أن يؤديها بنفسه، مع خسارته لأمواله التي دفعها لفرد أو شركة، ناهيك عن صدق الوكيل في تأدية المناسك كاملة من عدمه، وحيث إنَّ المجال مجال تجارة وربح فإنَّ الشكوك لا سبيل لإنكارها.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ العمرة وكذا الحج عبادتان روحانيَّتان وليسا مجالًا للتكسب وتحصيل المال، نعم يجوز للحاج وللمعتمر أن ينتفع ماليًّا وهو في حجه أو عمرته، كأن يشري أو يبيع ، وذلك لقوله – تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} ، لكن الخطاب هنا موجَّه للحاج ومثله المعتمر ، حتى لا يعتقد المحرم بنسك أن شراءه شيئًا أو بيعه وهو مُحْرِمٌ يفسد نسكه، وكذا لا مانع من تنظيم الشركات رحلات العمرة أو الحج بمقابل أتعاب إضافيَّة لما يتحملوه من خدمة للحجاج أو المعتمرين وإنهاء الإجراءات ونحوها، وكذا التجار الذين يبيعون للحجاج والمعمرين الأطعمة والهدايا ونحوها…لكن أن تتحول المناسك الروحيَّة إلى عمليَّة تجاريَّة ماليَّة فهذا يخل بالمقصود من النسكين؛ ولذا يلزم على مَنْ يفكرون في ذلك البحث عن سبيل للكسب من طرق مشروعة ومنها خدمة الحجاج والمعتمرين. وللحديث بقية بإذن الله