مقالات

الثعبان

محمود السعدني
لم أكن أعرفه رغم الزماله الطويله، فخلال الخمس سنوات التي ضمنا فيها مكتب واحد كان أشبه بصندوق مغلق يخفي سره ….. ولم يكن يتحدث إلا نادرا وكان حديثه مجرد ردود دائما قصيره ومحكمه ومؤديه في أغلب الأمر إلي المعني………والحق أقول خبيرا في المهنه وأستاذا بارعا يفهم أسرار الصنعه ويتقنها.
يدخل المكتب علي شفتيه الرقيقتين إبتسامه رقيقه ثم يجلس في هدوء وقد عقد يديه وضمهما إلي صدره فيبدو كقديس هندي طيب أو طالب مؤدب في مدرسه ثانويه…وكان من عادته أن يشعل سيجاره ثم يخطف ببصره عناوين الصحف المكدسه فوق مكتبه حتي تحضر القهوه الساده ……
ولم نكن وحدنا أنا وعم محروس في المكتب، بل كان يزاملنا ثالث هو الأستاذ رمضان…. كان يؤدي نفس العمل الذي يؤديه عم محروس ويتقاضي نفس المرتب وكانت العلاقه بينهما علاقة عمل..فاتره بارده ومفروضه علي الدوام!
ورغم انهما كانا متقاربين في العمر إلا أن رمضان كان يؤدي مهنته كقدر مقسوم وحكم يخضع لقضائه في صبر واستكانه، ولم يكن رمضان يجيد مهنته ولا شيئا اخر… سمينا بليدا كأنه عجل يتقبل الإهانات كأنها ايات مديح ولكنه كان ذكيا وكان يخشي محروس ويحترمه…. ولم يكن يهتم بشيء مما يجري في العالم وكان غاية ما يتمناه هو الإنصراف مبكرا قليلا والحضور متأخرا قليلا…كان يدخن كميه كبيره من أنواع السجاير…. كما كان مفتونا بنفسه يشعر في أعماقه باحترام شديد تجاه مقدرته ومركزه الصحفي! وكان يحلو له أحيانا أن يعلن هذا لبعض المحيطين به ولم يجرؤ علي ذلك أمام عم محروس ويبدو ان السبب في ذلك يرجع إلي زماله قديمه!!
فقد كانا يعملان في نفس الجريده وكان محروس هو رئيس رمضان المباشر وكان يتقاضي مرتب يفوق ثلاث مرات مرتب رمضان….
وكانت العلاقه بين محروس ورمضان غريبه.. كانا نادرا ما يتكلمان فإذا حدث وتكلما فإن كلا منهما يبدو حريصا علي أن يبدو مؤدبا ومهذبا يزن كلماته وحركاته قبل أن يقدم عليها… وكان إذا غاب أحدهما بدا الاخر أكثر تحررا وسرورا وكأنه تخلص من قيود ثقيله كانت تلتف حول عنقه.
وذات مساء غاب رمضان عن المكتب… وجلس محروس صامتا كعادته ثم سألني فجأه:
-هو رمضان عنده أجازه؟… ضروري أجازه ده تعبان أصفر…..
وهزني الوصف كان وصف قاسيا ومطابقا لواقع رمضان … وبلا قصد ودون تعمد قلت ببساطه:
-انا سمعت ان رمضان مختلف مع الجريده.
وكأنما كانت عباراتي هذه هي كلمة السحر التي فتحت باب الكنز فلم أكد أنطق بها حتي سقط القلم من يد محروس وقال في جد عظيم:
-صحيح؟ ………….. سمعت إيه بالضبط؟
-بيقولوا خلاف
-ضروري في خلاف كان لازم يحصل كده…. ده جدع حقير أصله لا يعرف يشتغل ولا يعرف يعمل حاجه … كان بياخد عشرين جنيه وحياتك.
الأصول والعدل يرجعونا زي ما كنا أنا مستعد يخصموا مني عشرين… أنا ابقي بستين وهو بعشرين …. ده بياخد تمانين جنيه ده ظلم!
كان يتكلم والشر يطفح من وجهه.
-تعرف يسلموني رمضان ده وشوف راح اعمل فيه إيه… ده كان بيشتغل معايا وانا بس اللي اعرف اشتغل معاه.
ثم قطع حديثه فجأه وكان واضحا أنه يعاني من مشاعر شتي …….. مشاعر إجتاحت نفسه فجأه هي مزيج من الحزن والفرحه والأسي والرغبه والسرور، ثم جاشت وفاضت واحتوت كيانه الضئيل كله، ولم يستطع كيانه أن يتحمل هذا الطوفان كله فانهار وانفتح الصندوق الذي كان مغلقا يحوي سره وتدفقت كل هذه الأسرار فجأه كأنها نهر جارف…. وعندما نهضنا لننصرف كان واضحا علي وجهه مدي الجهد الشديد الذي بذله ليسهر معي حتي الصباح، لقد كانت ليلته الاولي ولم يكن أبدا قد جرب هذا النوع من السهر الطويل وقد انتهي حديثه عند الصباح الي نفس النقطه التي بدأ بها…. حديث رمضان ومرتب رمضان وما يجب أن يتخذ ضده من اجراءات!!
-صاحبك غايب النهارده برضه….. أكيد فصلوه، ده جبان لا يمكن يتأخر عن ميعاده إلا إذا كان في سبب وجيه خالص ، ده ابنه مات وحضر .. هو لازم طردوه…لازم لازم !
وسهر عم محروس معي هذه الليله أيضا….
-تعرف رمضان ده أخطر من الاستعمار، الاستعمار ممكن نتخلص منه إنما رمضان مش ممكن…. بشرفي الحرب ضده حلال …حلاااال!
وفي اليوم التالي جاءنا نبأ مرض رمضان ولكن لم يبد علي وجه عم محروس الإهتمام ولم يبد عليه الإيمان بصدق الخبر.
-ده عمره ما يمرض ده تعبان أصفر..كان بياخد عشرين جنيه بياخد تماتنين دلوقتي هو ده وش عيا….قول يا باسط
ولكن الأنباء راحت تؤكد أن رمضان يعاني مرضا خبيثا وحالته خطره …. وكل الزملاء عادوه في المنزل أكدوا هذا النبأ وازدادوا عليه أن الأيام القليله القادمه ستقرر مصيره…..
وكان لابد أن نزور رمضان… محروس وأنا زميليه في مكتب واحد ومحروس بالات كان زميله منذ عشر أعوام….وبالفعل اتفقنا، وجاء عم محروس في الموعد الذي حددناه وراح يردد من جديد:
– أقسم بديني كان بياخد عشرين جنيه..عيان ايه وبتاع ايه…دي حركه اقسم بديني حركه…..بكره يرجع زي الثعبان تاني، ده صنف عمر المرض ما يطوله ….ده صنف طوب هو الطوب بيمرض؟ إذا كان الطوب بيمرض رمضان يمرض.
ووصلنا أخيرا لبيت رمضان واستقبلنا ع الباب طفل ظل يقفز وهو يسألنا في سذاجه: عاوزين أبويا؟ ده الدكتور عنده أصل أبويا بيموت… قالها ببساطه دون أن يدرك معناها…
ونظر عم محروس للطفل وقال بصوت خافت:
-عيال شبه التعابين… التعبان يخلف إيه غير تعبان؟؟
ثم سكت عندما أصبحنا داخل الحجره التي ينام فيها رمضان ويبدو أننا فاجئناهم حيث هرولت بعض النسوه إلي الداخل بينهم عجوز تصبغ شعرها بالحناء فيما يبدو أنها أم رمضان كان التأثر والإجهاد علي وجهها الذي تنحدرعليه دمعه ساخنه …..وقد تبعها خمس بنات باكيات وأطفال صغار في ملابس غير لائقه..
وجلسنا إلي جوار رمضان نشد علي يديه ونشجعه ..كانت كلماتنا بارده كئيبه ليس فيها حب أو إخلاص وكان هو الاخر عاجز عن النفاق، لقد جرده المرض الرهيب من أمضي أسلحته…
كان شبه أرنب مذعور يجري من صياد ماهر يطارده… وكان حديثه معنا حول العيال والأسره من بعده:
-دول عيال مساكين دول ولايا……يعملوا إيه المساكين.؟
وهتف عم محروس :- ربك كبير يا رمضان.
فأجاب رمضان وهو شبه حالم: -يارب.
وخذلته قواه فلم يستطع أن ينطق بعدها
وخرجنا من بيت رمضان صامتين وإلتزم كلانا الصمت حتي مضي كل منا إلي حال سبيله.
وفي المساء التالي جاءنا خبر رمضان…. لقد هزمه المرض!
ولم يكن حروس قد حضر……. وعندما جاء جلس أمامي في هدوءه المعهود وأشعل سيجاره وراح يرتشف قهوته المقدسه، ثم أبلغته الخبر وتفرست في وجهه أري ماذا يكون وقعه عليه….
وبدا علي وجهه عدم التصديق كان موته معجزه مستحيله التحقيق فمصمص شفتيه وعاد إلي عمله كأن شيئا لم يكن.
ثم أردت أن أقطع الصمت الذي يخيم علينا فقلت:
-الله يرحمه عنده عيال كتير…
ولم أكد أنهي العباره حتي انهار عم محروس فجأه وراح يبكي في حرقة صادقة نابعه من أعماقه وكان جسده الهزيل يهتز كله من فرط الأسي والحزن واحمرت عيناه وتورمت وفتحات أنفه اتسعت وشفتاه تورمتا من شده ما عض عليهما بأسنانه الصفراء ونهض عم محروس خارجا علي عجل حتي إنه نسي عادته فلم يلق علي السلام!
الثعبان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى