ادب وثقافه وفن
نشيد الغرام
قصة فتيحة قادة الجزائر
أحبَته في مقدم نضجها، دون سابق ترتيب ، عندما تعلمُ بقدومه تتغيَر و يتغيَر طقم القهوة و المناديل و الأفرشة ، ترعرعت مع جدَتها “عُودة” في البيت الكبير الذي هجره جميع الأخوال و الخالات ،حوشه واسع تعانق جدرانه القصيرة أشجار العنب الأسود و نباتات العليق و عند الزَاوية الظلَية يتربَع فرن حجريٌّ بجانبه كومة الحطب المعدَة للوقود.
كان عملها في الداخل تكنس ، تشطف غبار المزهريات و تسقي نباتات الدار كل صباح على أنغام فيروز المنبعثة من المذياع ،و في إحدى أمسيات رمضان الدَافئة و هي منشغلة في تحضير قطائف السمسم المحلاة و تزيين مائدة الإفطار في انتظار خبز جدَتها التي انقطع صوت حركتها ،خرجت فوجدتها ملقاة لا تستطيع الحركة و لا الكلام ،و بعد معاينة الطبيب لها في المشفى أخبرهم أنَها تعرضت إلى شلل كليَ ، تدفَق ليلتها كلَ أفراد العائلة الكبيرة و معهم هو ابن خالها ” بَخَدَّة” ،كعادتها نخدمهم و تعدَ القهوة و تحضَر السّحور و تسترق بعض نظرات الإعجاب من عينيه الحادَتين اللَتين تخترقان ثوبها و تصلان إلى جسمها الفتيَ الذي بدأ ينضج ،ثمَ نذكَرت أنَ الفرن لا تزال نيران جمره تشتعل فخرجت تطفئه و تسلَل وراءها و هناك انفضحت جميع النَطرات و بعض الكلمات التي نثرها كبذور الكرز في تربة عذراء.
غادروا جميعهم و هم يوصونها على الجدَة و لم ينتبه أحد لثيابهما الملطَختين بالرَماد، و عاد ليلة غد و بعد غد و بعده… و اللَيل ىستَار و الغرام قتَال ، ابن حرام يلغي جميع الأوراق من طاولته…
و أتى العيد و لم يحضر هذه المرَة و طال غيابه و أتى إجازته الموالية و لم يزرها و بدأت رائحة شياط الغدر تتسلَل إلى أنفها،
و ذات مرَة كانت تقلَم أظافر العجوز فدخلت عليها إحداهنَ في استخفاف لحالها و أخبرتها أنَه خطب فتاة من العاصمة فهو إيطار بالجيش و آلاف الفتيات تتمنَينه ،أخفت دهشتها و هي تردم أظافر العجوز محاورة ذاتها _ كان عليك أن تقلَمي أحلامك قبل أن تقلَمي نظراتك و جسمك ، و حظرت زفافه كونها المرافقة الوحيدة للجدَة ،واصلت صباحاتها على أنغام أشرطة الكاسيت التي كان يحضرها لها، و الشَوق فتَاك يقتحم خلوتها تتكئ على حجر الفرن تراقب عصافير الدار التي تقبع تحت القرميد ، كانت كلَما نثرت تنهيدة تبعتها مئات الخلايا من جسمها الذي بدت عليه النحافة و تحرَكت داخله مضغة دخيلة ، ترمقها الجدَة في صمت لا تقدر على مساعتها ، تهدَئها و تمسح على رأسها بكفَها الوحيد الذي يتحرَك ، في الصَباح تحزم أمتعتها و توهم الجدَة أنَها ذاهبة إلى حمَام المدينة فخرجت و قصدت طبيبة النَساء و دون سابق كلام انتزعت حلقتيَ أذنيها و سوارا من عنقها و ارتمت تقبَل مئزرها على أن تخلَصها من حملها، فانهالت عليها الطبيبة ضربا و سباً ،و عادت إلى البيت الكبير شاردة ، قبعت في الظهيرة تناجي ربَها تراقب جدارية معلَقة على الحائط و قد كتب عليها ” يا رب” و هي تردَد المكتوب إلى أن غفت ، فجأة أيقضها دويٌّ و طرقٌ قويٌ على الباب كان ” جلول” المعتوه ابن شقيقة جدتها ” رقيبة” كان يدقُّ الباب بعصاه – افتحي يا ” حليمة” لقد نضج التين
هرعت و فتحت الباب و ورمت بعض الماء البارد على باكورات التين ، أجلست جدَتها تُذيقها بعضاً منه ،ثمَ نهضت تغلق الباب وراءه فانساب بين ساقيها دم غزيرٌ جرف معه مالا طاقة لها بحمله ، العجوز ” رقيبة” داية الدَشرة لاحظت شحوب وجهها و درت بما حلَ بها بعد أن استجوبتها فعرضت عليها الزَواج من ” جلول ” فهو الخلاص الوحيد لحالها و بكلَ رضا وافقت تستظلَ بصمتها كي لا يحرقها العار ،هو شاب في مقتبل العمر كان إيطارا بالجيش ترمقه فتيات الدَشرة من فتحات الباب ينتظرن نظرة منه و ذات شتاء تعرَضت ثكنته للحرق فمات أصحابه حرقا على مرأى عينيه و عاد معتوها إلى أمَه يجوب المراعي و التلال و المقابر هاربا من ألسنة اللَهب المتطاولة من مداخن الأفران في الدَشرة.
و دارت الأرض دورة كاملة حول الشمس و غادرت العجوزتان الشقيقتان إلى الضفَة الأخرى تكمّلان رعي الغنم هناك مع والدهما ،جلست ” حليمة” على ركبتيها نخبز كعك العيد و تزيَنه بفتافيت السكر أحمراً كوجنتيها و مرايا اللَهب تذكَرها بوجهه الوسيم ليلتها ،فيصرخ الآخر هاربا من اللَهب ،تهدَئه و هي ترشَ الماء على النار بعد إنهاء عملها ، وعند خلودها لمخدعها تستسلم لنزواته و أحيانا تهرب إلى جدار الفرن الذَي يخيفه ،منتظرةً شيئا حلواً يقاسمها تنهيداتها.
و دارت الأرض دورة أخرى حول الشمس و ” حليمة ” تدندن لابنتها و تواصل أيَامها و خرج المعتوه في الهجير لكن هذه المرَة لم يعد ، ثارت الدَشرة بحثا عنه لم بتركوا مقابرا و لا أضرحة و لا مساجدا لكن دون جدوى إلى وقت الغروب عند عودة الرَعاة في طريقهم إلى الوادي كي تشرب أغنامهم وجدوه منثورا من أعلى التلَة التي تسكنها تينة فاتنة على الحافَة بعضهم يقول أنَ جنيَة التينة قتلته.
اهتزَ النَجع بالخبر و انكمشت هي وحيدة وسط قلَة من النَسوة بينما جموع النَسوة و الرَجال كانوا يتدفَقون نحو أهل ” بخدَة” فقد ضرب زلزال عنيف العاصمة و هلك الكثيرون ، بعضهم يقول أنَه توفي و البعض يقول أنَه مفقود و انقطعت جميع الاتصالات به ، كانوا يواسون والديه و أخواته حتى الدمع كان ينزل ساخناً من أعينهم على عكس خيمة مأتم ” جلول ” المعتوه، البسيط، اليتيم الذي كان يرقد باردا و الناس يجلسون على الشَوك في انتظار الدَفن حتى هي كانت تبكي لوحدتها ثم تتنهَد داخلها و تدعو الله لنجاة الغدَار الذي أذاقها نخب الحبَ سويعات ،تعود تُرضع ابنتها ،تصلي و تضمَ ابنتها التي تؤنس وحدها في هذا الحوش الموحِش ،من ذا الَذي يسقي نباتاتها و يطعم طيورها و يعيد الحياة إلى فرنها كي تجهَز الخبز لابنتها ؟؟ تنهض باكرا تكنس الأديم و تواصل أعمالها فالحياة لا تتوقَف لموت أحد ولا لحياته ، و عندما يقتحم الشَوق مخدَتها تتكئ على جداريَة الفرن تراقب عصافير القرميد و طيفه يرشُّ رذاذ الضوء في سهوِ المحال.
نجا بخدَة” و خرج من المشفى عند أخته التي تعتني بساقه المبتورة من أعلى الفخذ و تربي أولادها و تخدم الأرض مع زوجها الذي يرفض وجوده عندهم، فأخوها كان متكبَرا يردَ التحيَة على صهره من وراء زجاج السيارة و الآن يتنفَس عبير الارض حين يحرثها المزارعون ،ينتظر قدوم أخته يواري وجهه من نظرات النَجع الشامتة ،بعد أن تخلَت عنه زوجته و حجزت على أوَل طائرة إلى أوروبا حيث يقيم والدها فهي الفاتنة و الوريثة الوحيدة ،تأبى أن تكمِل حياتها مع أعمى مبتور الساق ،يهزمه صراخ صهره فيخرج ليلا يتّكي على عصاه و هو أدرى بشعاب الدَشرة و أبوابها باباً باباً إلى أن يصل إلى البيت الكبير يدفع الباب الخشبيَ لا يزال كلَ شيء كما كان ، كانت كعادتها ترعى غزالا على سطح القمر ، تنتبه لخطواته المتعثَرة ، يتقدَم يمدَ يده يدفنها في رماد الفرن تتبعها يدها ـ اغفري ذنبا يا راعية و امسحي ريش غراب أعمى مكسور الجناح كان ذات ليال نعَّابا يكسوه زغب أبيضٌ ، ينزل ملاك يرعى السنونوات و ينثر لها بذور السمسم الرَمضانية و يعصر قِطر الحلو من مُزن الفجر فترتعُ تروي ضمأها و تسبح غارقة شيئا فشيئا كقطعتيَ سكَر تُدندنان نشيد الغرام.