ادب وثقافه وفن
اهم ندوة في عام ٢٠٢٢ ندوة نادي ادب السنبلاوين بقيادة الأستاذة فاتن شوقي.
الكاتب نبهان رمضان
اهم ندوة في عام ٢٠٢٢ ندوة نادي ادب السنبلاوين بقيادة الأستاذة فاتن شوقي.
هانستعرض تباعا الدراسات التي تمت في هذه الندوة. نشرت سابقا دراسة استاذ وحيد راغب و الان انشر دراسة استاذ سكينة جوهر بعنوان التشويق في رواية عريس الأميرات الأربع و تم نشرها في مجلة شرمولا السورية الكردية.التشويق في رواية عريس الأميرات الأربع للكاتب نبهان رمضان
● كتب: الشاعرة و الناقدة سكينة جوهر
الرواية : هي عمل فني أدبي حديث الظهور ، حيث ظهر في الغرب أولا في القرن الثامن عشر الميلادي ثم وصل للعرب عن طريق ترجمات لروايات أجنبية ، لم ينسجوا على منواله إلا نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .
والرواية أطول من القصة أحداثا ..وأكبر حجما لتعدد شخصياتها وتعدد الأماكن وامتداد الزمن بها ، ولتعدد صراعاتها وحبكتها أيضا رغم وجود الحبكة الرئيسية التي تجمع الأحداث عبر الفصول ، لإيجاد النهاية التي يرتضيها المؤلف .
وأهم عناصر العمل الروائي (التشويق) كما قال الفيلسوف اليوناني ( أرسطو): التشويق هو لبنة هامة من الأدب . و بعبارة عامة جداً، تتألف من وجود خطر حقيقي يلوح في الأفق وشعور بالأمل . وإذا لم يكن هناك أمل فالجمهور يشعر باليأس .
والروائي البارع هو الذي يستطيع بلغته السردية أن يجذب القارئ ، ويجعله يعيش معه أحداث روايته وكأنه أحد أشخاصها ، يتحرك مع بقية الأشخاص ويتحاور معهم ، بل ويتشارك أحيانا مع الروائي في إيجاد حل العقدة ..
وكل ذلك معناه : أن الروائي الجيد هو الذي يستطيع أن يستحوذ على قارئه ويجعله منذ يمسك بالرواية لا يتركها إلا وقد أتى عليها كلها قراءة واستمتاعا .
ولا يكون استحواذ الروائي على قارئه إلا من خلال عدة عوامل يتصف بها عمله الروائي ، وأولها ( التشويق ) / التشويق الذي ألف فيه ( دان براون ) المؤلف الأمريكي لقصص الخيال والإثارة الممزوجة بطابع علمي فلسفي عدة كتب وقصص وروايات تُعلّم الكاتبَ كيف يكون أسلوبه مشوقاً ،ومن أهم رواياته المثيرة رواية ( شفرة دافنشي ) والتي تم تصويرها كفيلم سينمائي فيما بعد .
المهم أن التشويق ملمح هام من ملامح الرواية الجيدة والروائي المتمكن
والتشويق هو : شعور من الإثارة يتعمده الكاتب الجيد لجذب قارئه بل وإشعاره بالتسلية والمتعة في القراءة ،،ولا يكون التشويق كما يعتقد البعض في الخيال فقط بل يأتي أيضا من خلال الدراما التي يصورها الروائي على ألسنة أشخاص روايته أو في الصراع بينهم والحبكة القصصية أيضاً .
وليس التشويق في السرد الذي يتناول أحداثا محزنة فقط ـ بل أحيانا يكون في الأحداث المفرحة والسعيدة أيضا ، لأن التشويق عبارة عن مزيج من الترقب من القارئ للأحداث وعدم اليقين في التعامل معها مع غموض المستقبل في التوقعات السردية عبر الرواية .
ولكي لا يكون كلامي مُرسلاً أسوق الأدلة على عنصر التشويق في رواية أديبنا البارع ( نبهان رمضان ) من خلال الآتي : –
أولاً :- بداية من العنوان ( عريس الأميرات الأربع )
نجد أن العنوان لافت جاذب يؤدي وظيفتيه تماما ، الوظيفة الجمالية المتمثلة في تزيين الكتاب وتنميقه ، والوظيفة التداولية والتي تتمثل في استقطاب القارئ واستغوائه على حد قول ( جمال حمداوي ) في كتابه ( العتبات النصية ) .
و – بصرف النظر عن مطابقة العدد لمعدوده حيث يجوز ( الأميرات الأربع ) و(الأميرات الأربعة ) -، هذا العنوان كعتبة نصية يدخل منه القارئ لعالم الرواية التي بين يديه (عريس الأميرات الأربع) توحي بالفرحة والسعادة ، متخيلاً أنه سيكون بالرواية ماينبئ عن عرس سعيد لبطل القصة مع أميرات أربع يتزوجهن ، ويبدأ الرواية متشوقاً أنه سيعيش قصة من قصص ألف ليلة وليلة ( عريس وأميرااات … الخ ) ..
والجذب والتشويق سينشأ أيضا من أن القارئ سيظل باحثاً مخمِّناً طوال أحداث الرواية وحواراتها بين شخصياتها عبر عدة فصول عن هذا ( العريس ) مَن سيكون ياترى ؟؟ و ينجذب القارئ ويتابع الأحداث صفحة صفحة مع البطل الرئيسي لها ( الشيخ جليل العابد الزاهد ) على أنه ممكن أن يكون ( العريس) وإذا به يصل إلى شخصية ثانية وثالثة ورابعة ( عزيز ، عاصم ، الأمير سافر … الخ ) ويتوقع أن واحدا منهم قد يكون ( العريس المنتظر ) ، ولكن كاتب الرواية ببراعته السردية وحبكته الفنية يخيّب كل ظنونه وتخميناته ويصل به إلى وضع مأساوي نهاية الرواية ، نعم ( الشيخ جليل العابد الزاهد ) هو( العريس ) ولكن ( مع وقف التنفيذ ) لأن الحاقدين الفاسدين ذوي السلطة والجبروت أهل الشر يرون أنه لا يصلح أن يكون ( عريسا) لأربع أميرات يدير شئون حياتهن ويوفر لهن الراحة والسعادة ، ولا حتى يصلح واليا يدير شئون المدينة ، بل يصلح فقط أن يسكن الدهليز ، رغم أنه ضحى بكل وقته وجهده وماله بل وتقربه إلى الله واستقطابه للتائبين ليتوبوا ويكونوا بشرًا صالحين يعملون وينتجون ويبنون بلادهم وينهضون بها ويرتقون ، كم يستحق أن يكون بالفعل ( عريساً ) للأميرات الأربع ( بنات أمراء البلاد ) ،، ولكن قمة التشويق في المفاجأة المؤسفة للغاية أن ( أمراء المدينة الأربع وواليها الأعظم بعد أن يقيموا حفل عرسه ويهيئوه نفسياً للزواج بإقامة عزومة كبيرة وموائد حافلة بكل أصناف الطعام الفاخرة ،وباللحم الكثير الكثير الذي يضعون منه أمامه ويصرون على أن يلتهمه ، ويطيعهم ويلتهمه رغم أن مذاقه لا يروق له ، يقول كاتبنا في (ص 110) نهاية الرواية [ يضعون قطع اللحم أكثر وأكثر أمامه ويحاول أن يلتهمها الشيخ وسط ضحكاتهم … انتهوا من الطعام ، وقف الوالي الأعظم يعلن للأمراء الأربعة والشيخ جليل أن هذا اللحم الطيب حلو المذاق لحم ذلك الرجل القابع في الدهليز ،…وأشار للشيخ قائلا : إن الدهليز الآن أصبح شاغرا تعبد الله فيه كما شئت بعيدا عن أعين البشر أجمعين …عريس الليلة هو الجبلاوي الذي سار معهم إلى قاعة العرس وهو منتشي .. صار عريس الأميرات الأربع ] .
ثانياً :- التشويق في ( مقدمة الرواية ) حيث يقول أستاذنا (نبهان رمضان) فيها :- [ بين الماضي والحاضر يبقى رابط جوهري يستحضر الأحداث ] .. ويكمن التشويق هنا في إثارة القارئ بعدة تساؤلات منها :- هل الرواية ستعيشنا في أحداث الماضي أم الحاضر ؟؟ أم بينهما ؟؟ وما نوع هذه الأحداث يا ترى ؟؟ سياسية أم اجتماعية أم تاريخية أم عاطفية ؟؟
بل إن كاتبنا يثير قارئه بما هو أكثر من ذلك حين يقول في نهاية مقدمته والتي لم تتجاوز ثلاثة أسطر :- [ويظل المستقبل مترقبا بين الماضي والحاضر] .. تشويق جديد للقارئ من خلال كلمة ( المستقبل ) إذن الكاتب سيُحدثنا من خلال أحداث الماضي المؤدية للحاضر ويستشرف من خلالهما المستقبل ؟؟
ماهذه البراعة .. والإثارة .. والتشويق الرائع ؟؟؟ !!!! ..
وليس استشراف المستقبل عن طريق قصص أو روايات الخيال العلمي فقط ،، بل أصبح الكثير من الروائيين يستشرفون المستقبل من خلال سردية أحداث من الماضي والحاضر مثل ( عز الدين ميهوبي ) في روايته ( اعترافات اسكرام ) عام 2008م و( أحمد خالد توفيق ) في روايته ( يوتيوبيا ) ، وما كاتبنا الأستاذ( نبهان رمضان ) عنهم ببعيد ، حيث نراه لا يسوق أحداثه في أسلوب سردي مباشر ، بل غير مباشر في كثير من الأحيان متكأ على ( القناع ) الرمز ، والرمز الجاذب العميق الرؤية كما جاء في ( صفحة 56) حيث يقول:- [ملكة الخير تشكو من زيادة أعداد المحتاجين ، رغم أن العمال يقبضون إعانات والمتضررين من الكوارث ينالون تعويضات ، لكن ظاهرة زيادة الأطفال بدون أبوين تكثر في المدينة ، كل يوم نجد رضيعاً أو أكثر على باب المنزل دون أن نعرف من أتى به ولا أي شيء عنه ].. وكأن كاتبنا بحسه الروائي يستشرف تفشي ظاهرة اجتماعية خطيرة كظاهرة ( أطفال الشوارع أو أطفال العلاقات غير الشرعية ) في مجتمع موبوء بالفساد الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي بل والديني قبل كل ذلك ..
ثالثاً:- التشويق في وصف وتصوير الكاتب لشخصيات الرواية بلغة موجزة بارعة كأن القارئ يراها مجسدة أمامه فيقول مثلاً عن بطلتها ( صافيناز ملكة الليل ) في جمل افتتاحية خبرية منمقة ( ص7 ) : ( امرأة ثلاثينية جميلة فاتنة ينسدل شعرها الأسود الطويل من خلفها يغطي ظهرها العاري ترتدي ثوبا قصيرا … ) وفي ( ص9) يقول عن صافيناز أيضا : [ اقتربت من الرجل أكثر حتى لا يستطيع أن يركع أو يسجد ليهرب منها .. كانت عارية تماما كما ولدتها أمها ]
وفي تصويره لشخصية ( الشيخ جليل العابد الزاهد ) في الصفحة نفسها يقول : [ لكن الرجل رفع صوته وهو يتلو الآيات الكريمة ولم تهتز أنملة من جسده وينهمر الدمع من عينيه ، وزاد من تلاوته للقرآن بصوت حاد دون توقف ..]
وحتى في وصف كاتبنا للمكان نجد التشويق ماثلا في لغته الحية المعبرة بدقة ( ص11 ):- [ أنوار خافتة صخب يعم المكان ،، الغانيات يصرخن بميوعة وكاسات تطرقع فرقعة غطاء الزجاجات ضحكات ماجنة ،، النادل يذهب بزجاجات الخمر الفارغة ويجيء بزجاجات أخرى مملوءة تتصبب عرقا من شدة برودتها /،، رائحة الشواء تفوح ،، تتصاعد أدخنة حشيش الكيف والأفيون ،، في هذا المكان كل شيء مباح ..الخ ]
رابعا:- التشويق أيضا كان من خلال سرد الأحداث وتشابكها وتزايد الصراع بين شخصياتها حيث يقول (ص 27 ) :- ( هؤلاء هم الأمراء الأربعة ) وهنا يتشوق القارئ سائلا أين إذن الأميرات الأربعة ؟؟ ويستطرد في القراءة ومتابعة الأحداث منتظرا ( الأمير ) الذي سيفوز من هؤلاء الأمراء بالزواج من الأميرات الأربع ،، إلى أن يوصله كاتبنا في الصفحة الأخيرة من الرواية إلى المفاجأة المذهلة بقوله بآخر سطر من روايته الشيقة على لسان الوالي الأعظم للمدينة [ عريس الليلة هو الجبلاوي ] والأميرات الأربعة هن بنات أمراء المدينة الأربعة .
خامسا:- التشويق في الحوار الشيق بين الشخصيات كما جاء بين ( صافيناز ملكة الليل) و(برديس التي كانت صافيناز سببا في إدخالها الحانة لتعمل معها فيها قبل أن تتوب ( صفحة 30 ) وتبرر لها سبب إدخالها للحانة لتعمل معها قائلة :- [ رأيتك تلهين مع الشباب يرقص قلبك لكلمات الإطراء أكثر من أي فتاة ، شعرت بالحمم الكامنة في جسدك ، رأيت رغبتك مستترة في اللذة فمنحتك إياها ] فترد عليها برديس [ كنت أطرب لكلمات الإطراء ولا أعرف ألعاب الجسد ، لقد رميتني في نار اللذة التي لا تخمد أبدا ، رميتني في الحضيض ].. فترد صافيناز عليها : [ لا تخدعي نفسك لقد وجدت ذاتك في تلك اللذة وملكت قرارك وحريتك ] ، فترد عليها برديس [ أي حرية تلك بعد أن اشتعلت اللذة في جسد غض ، أي حياة بعد أن تدنست الروح قبل الجسد ؟؟]
حوار فلسفي شيق يأخذ القارئ لعالم من التأمل الفكري في ،، الحرية ،، وعلاقتها باللذة ،، وماهية كل منهما ؟ وهل الحرية الحقة حرية الروح أم الجسد ؟ وكذلك اللذة ؟
إن حوار كاتبنا ليس مجرد حوار في عدة كلمات تكونها حروف بينها علاقات لغوية دلالية و فقط ، بل حواره يتعدى ما وراء ذلك من تشويق وجذب القارئ وإمتاعه من خلال إدخاله في قضايا فلسفية وفكرية ماتعة يبسطها بأسلوبه الروائي الشيق في إطار حواري جذاب دون أن يبدو بمظهر الشارح لنظرية فلسفية ، وكما يقول (ألبير كامو) في كتابه ( أسطورة سيزيف ) :- ( الروائيون الممتازون هم الروائيون الفلاسفة ويعتبرون أن العمل الفني بداية ونهاية حصاد فلسفة غير معبر عنها ).
بل وقمة البراعة في الحوار والحديث النفسي حديث صافيناز حين وقفت أمام المرآة تلامس كل عضو بلمسات حانية تتأسف لما آل إليه جسدها من ذل وهوان (ص 15) تقول :- أي مقابل ذلك الذي يساوي استباحة جسد أو إلقائه في براثن الشيطان ، مسحت دموعها وهي تقول لنفسها في المرآة : أيها الجسد الذي لا تعصى لي أمرا اليوم تعلن تمردك وتفر من براثن الشيطان الذي احتضنك منذ أن علت تضاريسك وانخرط شق النساء … الآن والآن فقط لأول مرة في حياتك تشتاق الفضيلة .. آن أوان الكرامة .. تخلص ممن امتطاك ].
سادسا:- ومن مظاهر التشويق في الرواية تعدد الصراعات والعقد والحلول وليس هذا التعدد إلا دليل تمكن حكي وبراعة سرد وثراء خيال من كاتبنا وقدرة على خلق قصة وحكاية من رحم قصة وحكاية أخرى تمتع القارئ وتجذبه وتشركه في استنتاج الحل وإبداء رأيه في حل الكاتب ولقد استوقفني شخصيا كقارئة للرواية كم صراع وعقدة وحل على امتداد الصفحات مثلا ( ص 27 ) يقول كاتبنا ساردا بمهارة :- [ اجتمع الأمراء الأربعة الذين يتحكمون بالمدينة ولاسيما بعد ضعف واليها الأعظم الذي أصبح طاعنا في السن ليبحثوا الخطر الداهم الذي يحيق بالمدينة وينذر بحرق كل شيء ]،، العقدة المشوقة هنا في الخطر الداهم المتمثل في ( ارتكاب الفحشاء علانية نهارا جهارا في بيت الشيخ جليل العابد الزاهد ) مما جعل أهل المدينة يتجمهرون بغية طرده هو وجماعة التائبين معه من المدينة ، والصراع المشوق في تحايل ( صافي ) على الشيخ العابد الزاهد في أن يخرج لأهل المدينة ليثبت براءة كل من في بيته وأن هذا الفعل تدبير من الأمراء الأربعة ومرتادي الحانة الليلية وعلى رأسهم ( عاصم ورفيقه ….)، ويأتي الحل الشائق جدا والشائك أيضا في (ص 38) حين يقول كاتبنا :- [ لكن الوالي الأعظم فاجأ الجميع بعد اعتذاره للشيخ جليل على ما يدور من بعض السفهاء … بعرض ولاية المدينة عليه …] ، وبالطبع يتفاجأ الجميع بما فيهم الأمراء الأربعة ويترقبون بشغف ما يقوم به الشيخ العابد الزاهد عندما يتولى المدينة ..وتتوالى الصراعات والعقد والحلول وكلما انحلت عقدة تبعها صراع آخر وحل حتى ينتهي بنا الكاتب إلى نهاية مشوقة تملؤها المفاجأة .
من جماليات اللغة السردية في رواية ( عريس الأميرات الأربع )
تحدثت عن ( عنصر التشويق ) بتلك الرواية في عدة نقاط هامة من خلال سياقات الأحداث وشخصياتها والصراع بينهم والعقدة والخاتمة. أرى أن لغة كاتبنا السردية في هذه الرواية أيضا تعكس درجة عالية من التشويق الذي يكمن فيما تحتويه من جماليات أسلوبية – بيانية أو بديعية – ودقة تراكيب نحوية رغم بساطة أسلوبه – في العموم – من أجل إثارة القارئ والاحتفاظ بوعيه وتركيزه طوال مطالعته للرواية .
وكما يقول د: صلاح فضل في كتابه ( بلاغة الخطاب وعلم النص ): “مفهوم الأسلوب في الرواية يرتبط بجملة من الخصائص التقنية لها ، مقترباً من مفهوم النمط السردي، ومبتعداً عن السطح اللغوي المباشر للنص، مع ملاحظة هذا الدور الوسيط للغة في الرواية “
** وفي ظني أنا ( سكينة جوهر ) أن الكم الهائل للنشر العشوائي و المتسارع على شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة يجعلنا نعيش في دوامة أجبرت الكثير من القراء أن يقنعوا ويقتنعوا بالسهل البسيط والغثّ من الكتابات بشتى أنواعها حتى يتمكنوا من متابعة كلّ ما يُنشر على صفحات هذا الفضاء الأزرق ، وكان هذا ربما دافعا للكثير من كتاب اليوم – بما فيهم الروائيون – لأن يخضعوا لرغبة المتلقي في الكتابة بلغة بسيطة لكي تكون في متناول جميع طبقات المثقفين بدعوى أنه لا وقت لقراءة الكتابات ذات اللغة الفصيحة الفخمة والتي تحتاج إلى قراءة متأنية تقف بالبعض عندها لتأملها وفكّ شفراتها اللغوية والبحث وراء تأويل بعض مفرداتها الثرية والاستمتاع بأسلوبها الفصيح .
**وحقيقة أقلية هم من يجيدون الكتابة باللغة الفصيحة الحقة في أعمالهم السردية بل ويميل الكثيرون إلى أن يكون الحوار بالعامية ظانين أنهم بذلك يستميلون القارئ ،، وإذا كانوا يحتجون بهيكل في روايته( زينب ) حين جاء الحوار بلهجة عامية فقد كان ليناسب لهجة الفلاحة (زينب) وبعض أشخاص روايتها في بيئة الفلاحين ،، وهذا من جماليات اللغة السردية حين يجعل الروائي اللغة – خاصة الحوارية – مناسبة للشخصيات المتحدثة بها .
وعن كاتبنا اليوم ( نبهان رمضان ) أراه في لغته قد سار مسيرة طيبة حيث جاءت لغته معبرة عن الشخصية التي يرسمها ، سلسة حسب الحدث الذي يصوغه .. فجعل الشخصية تتحدث بلسانها الذي هو مناسب لدورها في الرواية ومناسب لبيئتها ووضعها السردي في الأحداث بلا إفراط ولا تفريط ، باعدا عن المهاترات الأسلوبية والطلاسم والنصوص الفارغة والسطحيّة فكريّاً وجماليّاً ، ولم يفوّت على القارئ المتعة الحقيقية في تتبع أحداث روايته باعثا فيها بريق الجمال والإبداع . لأن الكاتب الحق هو الذي يعطي للغته التعبيرية حقها من الجمال خاصة إذا كان روائيا فمتعة الرواية ليست في أحداثها وصراعها المتنامي وحبكتها فقط بل في جمال اللغة التي تعبر عن كل هذه العناصر .
** وبدءًا من لغة عنوانها – والذي يعد محور الانطلاق الأول إلى عالم الرواية – يطالعنا الأسلوب الخبري(عريس الأميرات الأربع ) الجاذب بلاغيا لإفادة الإخبار، والذي يتكون غالبا من جملة اسمية لها طرفان ( مبتدأ وخبر ) ، مسند ومسند إليه ، ولكن بالتأمل لا يوجد هنا إلا طرف واحد لهذا التركيب الإسنادي الخبري والثاني محذوف لدلالة بلاغية تشويقية للقارئ ، ليتخير بتأمله بعد تساؤله : هل(عريس ) بالمضاف إليه ( الأميرات ) ونعته ( الأربع ) هو الخبر على اعتبار تقدير المبتدأ باسم الإشارة ( هذا .. عريس الأميرات الأربع أو .. هذه رواية عريس الأميرات الأربع ) ؟؟ أم ( عريس الأميرات الأربع ) هو المبتدأ على تقدير( خبر ) ما ستنبئ به الرواية من أحداث داخلها ؟؟ ، وهذه الإحالة على فكر القارئ وتأمله براعة وبلاغة في العنوان ، وفائدة الأسلوب الخبري هنا تتجلى في إفادة المستقبل بجملة ظاهرة في كلام مُحدد ، و نجد أن تلك الإفادة هي الغرض الأصلي لجميع أنواع الأسلوب الخبري وإن تعمقنا أكثر نجد أن هذا المقصود بالأسلوب البلاغي لعنوان الرواية ، وهو إفادة القارئ بمعلومة ربما لم يكن يعرفها من قبل ؛ طبقًا لـما قاله كُتَّاب البلاغة العربية .
إن كاتبنا في لغة عنوان روايته يجعلنا نتوق شوقا لقراءة ما بداخلها دون انقطاع كي نعرف ماذا يلي العنوان من أحداث .
** وبعد بيان جمال لغة العنوان، أستعرض جماليات لغة الكاتب السردية الواصفة للشخصيات في روعة تثبت تمكنه من وصف شخصياته وكأنه عايشها في الواقع ويود منا من خلال لغته معايشتها أيضا ..
فمثلا على سبيل المثال لا الحصر في وصفه لشخصية ( صافيناز ) ملكة الليل يقول بلغة رغم إيجازها الشديد موضحا لملامح عمرها وجمالها وشعرها وما ترتديه من ثياب في صفحة 7 : [ امرأة ثلاثينية ، جميلة فاتنة ، ينسدل شعرها الأسود الطويل من خلفها يغطي ظهرها العاري ، ترتدي ثوبا أسود قصيرا شفافا في معظم أجزائه ، يحيط جسدها كأنه برواز يزين لوحة فنية نادرة بديعة ] نراه يعتمد في بدايته على الأسلوب الخبري البسيط المكون من ( مبتدأ وخبر ) والمكثف في معظم جمله الوصفية مابين مبتدأ وخبر اسمين مفردين ( امرأة ثلاثينية ، جميلة فاتنة ) ،ثم يضيف الوصف بالفعل المضارع الدال على الاستمرار والمحفز على استحضار صورة الشخصية (تنسدل ..ترتدي .. يحيط ) ، للوهلة الأولى نراه أسلوبا خبريا وصفيا بسيطا في تركيبه النحوي ولكنه يُجمِّله بحليات بلاغية بيانية كالاستعارة في قوله يحيط جسدها ) والتشبيه في ( كأنه برواز يزين لوحة فنية نادرة ) ولا يكتفي بوصف اللوحة ب( النادرة) بل يزيد إمعانا في توضيح جمالها فيقول ( بديعة ) وهذا ما يكسب الأسلوب الخبري عند كاتبنا ميزة بلاغية رائعة حيث لا يكتفي بمجرد الإخبار والتبليغ العادي للقارئ بصفات شخصية روايته ، لأن اللغة تظل محدودة الوظيفة ، إذا اقتصرت على الإخبار العادي..
** وحين يصف عيون صافيناز وصدرها يقول [ عيون لا تهاب أحدا ، نظراتها حادة جريئة تصيب الفريسة في سويداء القلب ، صدرها ناهد ، نافر يضيق بتلك المساحة التي حددها له ذلك الثوب ، يبحث عن متنفس خارج الثوب يتوق للحرية ]وهنا نجد كاتبنا يضيف إلى الأسلوب الخبري المكون من مبتدأ وخبر لمسة بلاغية تظهر في ( الإطناب ) وهو التطويل في الوصف ، لماذا ؟؟ للتأكيد والتشويق ، فالجملة الاسمية ( عيون لا تهاب أحدا ) كان يمكن لكاتبنا الاكتفاء بها ليدلل على جرأة صافيناز ملكة الليل ولكنه أطنب بجملة أخرى ( نظراتها حادة جريئة ) وبجملة ثانية تزيد القارئ تعرفا على تلك الشخصية الجبارة في إغرائها ، إنها لا ( تصيب الفريسة ) فقط ولكن تصيبها ( في مقتل ) كل ذلك ليدلل للقارئ بكل تأكيد على ما ستقوم به تلك الشخصية من أحداث قوية جريئة داخل روايته ، ولا يخفى على القارئ ما في كلمة ( الفريسة ) من إيحاء وإشارة رمزية بما تحمله شخصية ملكة الليل في الحانة ليلا ، وفي زيادة الوصف بكلمة ( جريئة) بعد ( حادة )، وكلمة ( في مقتل ) بعد ( تصيب الفريسة ) وكأن الكاتب يضع كل طاقاته التعبيرية لتشويق قارئه ليتابع الأحداث في الرواية ويقف على مضمون تلك الأوصاف في صافيناز .. وكما يقول ( شارل بالي ) : ” مدلول الأسلوب، في تفجرّ طاقات التعبير الكامنة في اللغة” وربما تتضح أبعاد تلك المقولة لشارلي بالي في وصف كاتبنا ( نبهان رمضان ) لصدر صافيناز في أسلوب مسهب بلغة فصيحة بليغة مجازية جاذبة حين يقول وكأنه عايش الشخصية في الواقع أو رآها رأي العين : ( صدرها ناهد ،نافر يضيق بتلك المساحة التي حددها له ذلك الثوب ، يبحث عن متنفس خارج الثوب يتوق للحرية ) و يالجمال الأسلوب الاستعاري في تشبيهه مجسدا لصدرها بإنسان أو طائر ( يبحث عن متنفس ويتوق للحرية )!!! إن كاتب الرواية يخرج الكلمات عن طوع المعاجم حين يسند المعقول للامعقول أو يجسد اللا محسوس إلى محسوس بلا روابط لفظية تثقل انسيابية السرد.
** وفي وصف بسمتها الماكرة المنبعثة من روحها القميئة التي ذهبت بها لتغري الشيخ جليل العابد الزاهد ، يقول كاتبنا صفحة 8 [ ابتسم ثغرها قليلا كالحرباء التي وجدت فريسة سهلة المنال تقدمت نحوه بخطوات ثابتة محدثة جلبة ربما انتبه لها لكنه يتلو وينتحب ، اقتربت منه حتى كادت أن تلتصق به حتى تلهبه حرارة جسدها ويخرج من صلاته ] نجد كاتبنا المتمكن من لغته في ذلك المقطع يتكئ في وصفه لموقف صافيناز هنا على الأسلوب الخبري أيضا ولكن باستعمال الجملة الفعلية ذات الفعل الماضي الدال على الثبوت ( ابتسم ثغرها ، اقتربت منه ، كادت ) ويعضده بالفعل المضارع الدال على الاستمرار واستحضار الصورة ( يتلو ، ينتحب ،تلتصق ،تلهبه ، يخرج ) وفي المزاوجة بين الفعلين الماضي والمضارع في جملة واحدة براعة لغوية تجعلنا نتلمس حجم الإبداع والحرفية العالية في الكتابة الروائية لدى الكاتب حيث اللغة المبهرة والمتجلّية من خلال السرد للأحداث ورسم ملامح الشخصيات .
** وتتضح براعة لغة كاتبنا في تملكه ناصية اللغة التصويرية حسبما يتطلب الحدث والشخصية فعندما يصف لحظة يقظة روح صافيناز وإشراق الإيمان داخلها نراه كأنه يمسك كاميرا بين يديه قد سلطها عليها ، متحدثا لقارئه في لغة انفعالية ذات إيقاع نفسي متتابع معيشا القارئ اللحظة بين سبعة أفعال ماضية في حركية متوالية بدون حروف عطف عبر أسطر قليلة في صفحة 9 يقول : [ ارتجف جسد تلك الفاتنة كأنما مسه سحر أو جان ، انعقدت خطوط وجهها ولاح عليها الرعب والفزع ، احتضنت جسدها العاري بذراعها البض رجعت للخلف كأنها الجيش المهزوم ينسحب من المعركة ، مازال الرجل يرتل الآيات الكريمة ، التقطت الثوب لتداري عورتها ، ارتمت في أحد أركان الحجرة تبكي وتبكي حتى علا نحيبها ، تلتصق بالحائط كأنها تريد أن تتوارى داخله ] ،، ثم في نهاية اللحظة يختم بالفعل المضارع ( تبكي وتبكي ، تلتصق بالحائط ، تريد أن تتوارى ) ليستحضر القارئ صورة صافيناز وهي تدخل عالمها الجديد ( عالم التوبة عالم الصفاء) لتتحول من صافيناز ملكة الليل إلى صافي ملكة الخير ، لقد أضاف كاتبنا البارع في أسلوبه السردي هنا الكثير من الملابسات اللغوية التي من شأنها أن توقف القارئ على لحظة تغير شخصية صافيناز وتبدلها من الشر إلى الخير وهنا أتذكر قول (ستاندال): ” الأسلوب هو أن تضيف إلى فكر معين جميع الملابسات الكفيلة بإحداث التأثير الذي ينبغي لهذا الفكر أن يحدثه ” .
** وفي صفحة 13 يبرع الشاعر بلغته المجازية الرائعة في سرد حديث صافيناز النفسي أمام المرآة ك( مونولوج ) حيث تقول : ( أيها الجسد الذي لا تعصى لي أمرا ، اليوم تعلن تمردك وتفر من براثن الشيطان الذي احتضنك منذ أن علت تضاريسك وانخرط شق النساء ] أسلوب إنشائي رائع يبدأ بالنداء المحذوف الأداة ( أيها الجسد) لقرب جسدها منها وقد استعادته في لحظة الإشراق الإيماني ، تعاتبه في جمل كلها حبلى بدلالات كثيرة توحي بندمها على ما فات ، إن كاتبنا هنا ليس في لغته انغلاق ولامكان عنده للكلمة التي لا تفيد سرده ، بل يعتمد على توظيف الجمل القصيرة بإيقاع سريع يعتمد على الجمل ذات البناء النحوي البسيط والذي ليس فيه ترهل لغوي عندما ينعت الجسد بجملة فعلية قصيرة فعلها مضارع منفي بلا ( لا تعصى لي أمرا) ثم ليؤكد سيطرتها على جسدها وأنه كان طوع أمرها يأتي بأسلوب القصر والتخصيص في ( لي ) ، إن كاتبنا يحترم التركيب النحوي لكنه غرائبي التصوير عجائبي السرد يخرج عن مألوف اللغة أحيانا ليصل بنا إلى لغة خاصة به تميزه عن غيره أحيانا كما في قوله ( منذ أن علت تضاريسك وانخرط شق النساء ) ، وكما يقول الجرجاني ( أجود الكلام شدة ائتلاف في شدة اختلاف )
** وفي صفحى 16 [ التقطت ثوبا أبيض طويلا ثقيلا يستر البدن ولا يفضحه ، وأدخلت شعرها قفصا من القماش وهو سعيد يغرد ] إن كاتبنا يعبر في ذلك المقطع بأسلوب التحليل النفسي الذي هو بالأساس تجربة مسرحها اللغة حصراً. كما يقول (لاكان): ” التكلم والتكلم فقط ” ، فيعبر عن نفسية صافيناز التي أصبحت بعد توبتها صافي متغلغلا فيها بلغة صافية ، فيها البياض لون ( ثوبها ) و( الستر مطلب بدنها ) ( والحشمة والتحجب لغة شعرها ) بعد ما كان ( منسدلا وراء ظهرها كأنه برواز للوحة فنية نادرة بديعة ) ، لقد أدخلته قفصا من القماش ( يغرد ) فيه سعيدا ، وقد كان بلاشك ( وهو منسدل لجذب زبائن الحانة أيضا سعيدا ولكن بين السعادتين بون شاسع تصوره لغة كاتبنا الرائعة من خلال دفق الصور أو التصورات والأحاسيس والعواطف والذكريات والأفكار .
**وفي وصف كاتبنا لبعض ملامح شخصية عزيز والشيخ جليل نجد من جميل الاستعارة قوله على لسان عزيز صفحة 17 [ هذا الرجل سلب مني طعم الأشياء دون أن يدري ، أعرفه منذ الطفولة سرق البطولة حتى عندكما كنا نتعلم القرآن حتى حب الأصدقاء كان دائما الأول ، عندما كبرنا وعرفنا حب الشباب سلب مني الحب دون هوادة ، وعندما عملنا في التجارة كان الأول أيضا حتى الأمراء كانوا يفضلونه عن الآخرين حتى أبي كان يعتبره الشخص المثالي الذي يجب أن يحتذي بحذوه الآخرون ]
المقطع السردي هنا في أوله يغلب عليه الأسلوب الاستعاري حيث يصور الأشياء في لغة طريفة بمأكول أو مشروب له طعم فيجعل القارئ من خلال تلك الاستعارة يتخيل مدى حقد وحسد وغيرة عزيز على الشيح جليل ومدى تعكر نفسيته منه وقد سرق منه طعم كل أشيائه ، وتبلغ الغيرة والحسد منتهاهما حين يختم المقطع بقوله [ حتى أبي كان يعتبره الشخص المثالي ] ونكاد من خلال الكلمات وطاقاتها المتفجرة بالمعاني نلمح تعابير وجه عزيز المتحسرة والمكتظة بالحقد على الشيخ جليل حتى ليدبر له الوقيعة في براثن صافيناز ملكة الليل ، إن لغةُ كاتبنا هنا بمثابة لسانُه الناطق في قلب شخصيات روايته ، وقلبُه النابض في الأحداث ، ومفتاحُ فكره المحدد لهوياتهم ، و أداة تفكيرهم واتصالهم بعين بل قلب وفكر قارئه بنشوة وارتياح .
**ومثله صفحة 39 حيث يقول : [ نسج الشيخ قماشا جديدا في إدارته للمدينة ، اختلط الأمراء والعامة معا وأنشأ عدة إدارات .. الخ ] ومن يتأمل ذلك السطر يجد أسلوبا بلاغيا استعاريا جميلا في الفعل الماضي ( نسج ) حيث يشبه إدارة المدينة بنسيج تحكم الشيخ جليل في نسجه بجدارة وهي إلى جانب الاستعارة كناية عن التجديد في الإدارة، ومثل هذا الأسلوب البلاغي الرائع يشيع في صفحات الرواية بمقدرة وحرفية فائقة تخدم الحدث وتمتع القارئ .
** ولو ذهبنا إلى لغة الشخصيات نجد أنها لغة معبرة موحية بما تحويه ملامح وسمات بل ونفسية وروح كل شخصية وما حدده الكاتب لها من دور عبر أحداث الرواية .
** وإن كنت أرى أن الأسلوب الحواري الإنشائي وبلاغة حسن التعليل المنطقية تغلب عليها كما في حوار صفاء ( التائبة ) لزكي الشحات الذي يتسلل ويضع طعامه الفقير ويأخذ طعام الأغنياء من اللحم وخلافه ( سألته صفاء : ولماذا لا تحضر الطفل معك وتأكل مثل الآخرين ؟؟ فيرد عليها : ( لا أريد أن يعتاد الطفل الشحاذة ، يكفي ما حدث لي ) لغة حوارية مقتضبة ولكنها معبرة في الكشف عن نفسية المتحاورين فصافي العطف والحنان يتملكها على طفل زكي ، وزكي تتملكه عين الرعاية على طفله ورغبته في تنشئته التنشئة الكريمة في إيجاز شديد وتكثيف لمجريات حياته اللا كريمة في جملة فعلية إخبارية بفعل مضارع كاف عن سرد مطول ( يكفي ما حدث لي ) ، إن الكاتب من خلال لغته هنا يكاد يقارب اللاوعي الذي تخفيه صافيناز في أمنيتها بحياة أسرية تنعم فيها بطفل تحيطه بحنانها ورعايتها ، إنه هنا استطاع نقل اللغة من حالة الجمود والسكون ( من مجرد حروف وكلمات ) إلى حالة الحركة والتواصل عبر سلسلة من القواعد الدلالية والتركيبية في السؤال والجواب عبر الحوار بين صافي وزكي .
وفي حوار آخر صفحة 67 بين صافي والشيخ جليل الذي أصبح واليا على المدينة يقول كاتبنا : [سألته بطريقة مباغته لماذا لم تتزوج بعد وفاة زوجتك ؟ رد عليها قائلا: زهدت الدنيا بكل ما فيها حتى نسائها . لكنك انشغلت بأمور العامة بعد توليك ولاية المدينة وبعدت عن حياة الزهاد . نعم انشغلت ولكن عزائي أن انشغالي بما ينفع الناس عبادة أيضا نعم ما تفعله الآن أشبه بما قام به عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدون ما أنا بعمر ولا أبو بكر لقد عايشوا الرسول أما أنا شخص أذنب ، وأكفر عن ذلك الذنب عل الله يتقبل ] إلى آخر الحوار الذي نرى فيه لغته تقترب من المحادثة العادية أو من الإجابات السهلة عن الأسئلة التي تطرحها الشخصيات و تتسم بالبساطة والابتعاد عن الشرح والتحليل والتعليل والترميز . ولكنها تظْهِر قدرة الكاتب على وصف القضية والتعمق فيها، وإبداء الرأي ووجهة النظر، فضلاً عن تحديد الرؤية على الوصف والتحليل . إذ إن كل من المتحاورين يسعى إلى إبداء وجهة نظره التي يقتنع بها في لغة بسيطة في أسلوبها الإنشائي ( السؤال بلماذا ) وأسلوبها الخبري التقريري المباشر في إجابة الشيخ ب( نعم) ، واستخدامه ضمير المتكلم ( أنا) . وهذا النوع من لغة الحوار المتنوع بين الخبر والإنشاء يثري بنية النص الروائي، ويعمق الحدث ، ويدفع المتلقي إلى اتخاذ موقف يؤمن به، ويدافع عنه.،،،، وهكذا هو في معظم حوارات كاتبنا داخل روايته يمتعنا بأساليب أخاذة عبر ذخيرته الموسوعية المشحونة بداخلها قواميس ومعاجم الكلمات التي يعبر بها .
وحتى لغة الحوار الذي يجري بين الشخصيات ذات المستوى الثقافي البسيط ، لم يجره كاتبنا بالعامية الصرفة ، كالحوارات التي دارت بين مرتادي الحانة أو بين عمال المصانع وبين التجار أو العامة الدهماء والمتسولة ،لكنه اصطنع لهم لغة فصحى بسيطة ، عكست بصدق فني مشاعرهم وأفكارهم البسيطة ، وبهذا اسند الكاتب لكل شخصية لغتها الوظيفية التي اكتسبتها من واقعها وثقافتها .
** ولو تأملنا لغة الكاتب في سرد الأحداث نجدها تحمل الفكرة للقارئ جلية واضحة بلا غموض كما في صفحة 42 حيث يقول : [ انتشر بين العامة أن صافي ترعى سيدة عجوز دون غيرها لأنها كانت من أدخلتها الحانة القديمة وعلمتها كل خبايا الليل والمجون ، وكانت تقدمها للأمراء خفية دون غيرها من الغانيات حتى ذاع صيتها في المدينة كملكة الليل ، ولهذا تحفظ لها الجميل وتفضلها عن كل المحتاجين وتعتني بها بنفسها ] تتميز هنا لغة الكاتب بالبساطة والسهولة والدقة، كما تتميز بفصاحتها وخلوها من الغرابة والصعوبة ، وكثيرا ما يستمد معجمها من فضاء الرواية، كفضاء ( الحانة ) الذي يناسبها لغة ( الليل والمجون والغانيات ) ، فيختار لكل فضاء ما يناسبه . وغالبا ما يتكئ الكاتب على الجمل الفعلية القصيرة ذات الفعل الماضي ليدلل على ثبوت الفعل أو ذات الفعل المضارع ليدلل على الاستمرار واستحضار صورة الشخصية مثل (انتشر بين العامة / ترعى سيدة عجوز ) ، لتجسيد أفعال شخصياته ، وقد تطول جملة أحيانا ، بطغيان السرد وشرح الحدث . وهو في كل ذلك يعتمد على الفصحى الوسطى ، المقربة من أوساط المثقفين ، فهي لا ترتفع إلى حد الإفراط، أو التقعر اللغوي، ولا تسف نازلة إلى الركاكة أو العامية .
** وفي صفحة 45 يقول كاتبنا بلغة معبرة واصفا إدارة الشيخ جليل للمدينة عبر عدة جمل متوالية في سياق المقدمة والنتيجة والسبب والمسبب عنه [ انغمس في مستنقع الحكم ، وبعد عن حياة الزهاد ، ولم يعد يقوم الليل كعادته ، حتى صلاة الجماعة التي كان يواظب عليها منذ أن تولى ولاية المدينة ليختلط بالعامة ويراهم ويرونه باستمرار ، لم يعد يذهب إلى المسجد الكبير بعد أن هاجمه السفهاء والمأجورون عدة مرات ]
نجد هنا أنّ كل جملة سردية قد كتبها مؤلف الرواية أستاذنا نبهان رمضان بطريقة إبداعية رائعة ، كلّ مقطع نصّي جاء مرتبطاً بما قبله وما وراءه من مقاطع نصّية ، كل أسلوب منها يتناغم ويتواصل مع سابقه ولاحقه ، و يكمل ما قبله وينير ما بعده ويجعل النسيج الروائي متوهّجاً في لغة جميلة بانزياحاتها وخيالها ، حيث مزج الخيال الخصب مع الواقع في ( انغمس في مستنقع الحكم ) مشبها الحكم بمستنقع بالنسبة لهذا الرجل العابد الزاهد في أسلوب استعاري مشوق لما سيكون من أحداث في هذا المستنقع تجعل المتلقي يقف عنده طويلاً مستمتعاً بجمال اللغة وعذوبتها .
** وكلما نتقدم في قراءة الرواية ومتابعة لغتها السردية المبهرة يداهمنا جمال كثير ينبعث من لغة كاتبها ، وكأنّي به يختار جمله بدراية وتأنّ ويحاول أن يرسم من خلالها الجمال المشوق للقارئ .
جمل نصّية متواصلة لا نجد فيها أيّ ترهّل أو زيادة أو نقصان ، حيث تتدفق دون توقف وينبعث من خلالها الجمال اللغوي الممتع ، ويختتم الكاتب روايته ليكون مسك الختام الدرامي متعانقا مع الإبداع اللغوي في قوله صفحة 110 [ أشار الوالي الأعظم للشيخ جليل قائلا : إن الدهليز الآن أصبح شاغرا تعبد الله كما شئت بعيدا عن أعين البشر أجمعين .. عريس الليلة هو الجبلاوي الذي سار معهم إلى قاعة العرس وهو منتش سار عريس الأميرات الأربع ] ، وكأننا أمام ممثلين في مسرحية يجسد فيها الكاتب بلغته المبهرة شخصية الوالي الأعظم وحوله الأمراء الأربعة وقد وقف ممشوقا بطغيان وتجبر يشير بإصبعه الممدود إلى وجه الشيخ جليل قائلا في نبرة آمر شديدة اللهجة : ( إن الدهليز ..الخ ) وللتأكيد بالحرف الناسخ ( إن ) دلالة على أنه لارجعة في كلام الوالي الأعظم مهما توسل إليه الشيخ جليل ، وللغة الظرفية بلاغتها الجميلة في استخدام الظرف ( الآن )الذي يوحي بأن الوالي الأعظم منفذ حكمه الذي لا رجعة فيه على الشيخ في الحال دون تسويف ولو لدقيقة واحدة ، وكأني بكاتبنا يتخير كلماته بدقة متناهية ويعرف قدر كل كلمة بلاغيا فيضعها الموضع اللائق بها والمؤدية فيه المعنى بلا زيادة أو نقصان ، ففي كلمة ( شاغرا) والتي آثرها الكاتب على كلمة ( فارغا ) وأخبر بها عن ( الدهليز ) دلالات وإيحاءات لا يمكن أن تقوم كلمة أخرى بمهمتها لدي المتلقي وبما تعنيه من الفراغ القوي المتسع الأرجاء ماديا ومعنويا ونفسيا رغم ضيق ( الدهليز ) وكأنه يتهكم بالشيخ جليل ، وتأتي الجملة اللغوية الأخيرة في سردية الرواية محكمة النسج متقنة الدلالة تفيض ببلاغة كثيرة في تركيبها اللفظي بل والنحوي أيضا حين يوجز قوله الخبري ( عريس الليلة هو الجبلاوي ) ولا يخفى مالضمير الشأن (هو) من بلاغة تخصيص وتفخيم وتعظيم لذلك ( الجبلاوي ) حيث لم يقل كاتبنا المنتقي للغته بحسن فكر وتدبر فيما تعنيه كل كلمة بل كل حرف بها ،، لم يقل ( عريس الليلة .. الجبلاوي ) أو ( عريس الليلة سيكون الجبلاوي ) .
إنّ القارئ الذي يقرأ هذه الرواية سوف ينبهر كثيراً بهذا الكم الهائل والمتواصل من جمال تبعثه لغة كاتبها الفريدة المعبرة عن الحدث بعذوبة ألفاظها ، وجزالة تراكيبها، ورقّة عباراتها ، ودقّة دلالاتها ، هذه اللغة التي تمسك بتلابيب القارئ ولا تجعله يغادرها إلاّ بعد أن تنثر عبق جمالها في روحه وتبعث فيه نشوة لا تفارقه بسهولة . فما من صفحة بالرواية تخلو من جمال لغة متمثلا في تصوير بلاغي بياني ممتع أو بديعي مشوق أو معنى رائق مدهش.
وهكذا يجوب بنا أديبنا المبدع ( نبهان رمضان ) عبر صفحات روايته الشيقة في عوالم من الدهشة والمفاجأة والتشويق مستخدما لغة تصويرية رائعة رغم بساطتها وإيجازها، لغة سردية محكمة جاءت مؤدية للمعنى المراد بلا زيادة أو نقصان مما يجعل القارئ مستمتعا بها أيما استمتاع إلى جانب استمتاعه بأحداث الرواية وكل عناصرها
// مع خالص تقديري له وأمنياتي في مزيد من التألق والتشويق في أعمال أخرى //
قراءة الشاعرة : سكينة جوهر
المصدر: رواية عريس الأميرات الأربع للكاتب نبهان رمضان
المراجع
بلاغة الخطاب و علم النص للدكتور صلاح فضل
علم الأسلوب شارل بالي
محاضرات اللسانيات اللغوية – شارل بالي
مقولات أرسطو- ويكيبيديا