ادب وثقافه وفن
اخلعني
... بقلم: دوحة الأدب والعلم راضي-ضيف
تقول الأسطورة على لسان شهرزاد، أن الإنسان يحمل في بنيانه خصائص
الذكورة والأنوثة، وإن جارت إحداهما وبغت على الأخرى في الظهور،
وكادت لها كيدًا، وكادت تتنصل من جوارها، بمحو كل أثرٍ يدل عليها،
رغم أنهما صفتان متلاصقان، لا تفترقان، ولا تتواجهان،
قدرٌ فرض على البنيان المكتمل، الذي يشمل النوعين، لم تسعفها الذاكرة
إن كانت الأسطورة قد نصت على أن النوعين متتامان، أو متكاملان،
لكنها على يقين أن الأسطورة قد أشارت إلى أنه لا حياة لذكورة بعيدًا عن الأنوثة،
ولا قيمة لأنوثة البنيان بعيدًا عن مرمى عين الذكورة، فكان هذا البنيان المنسجم
ظاهرًا، في حين أنه تبنٌ من تحته ماء، باطنًا، فكان الإنسان الذي أغضب من وهبه الحياة،
ومَنَ عليه بما تتوق نقسه إليه، من حبٍ غريزي، نشأ وترعرع في نسيج جسمه،
له في كل خلية من خلاياه ركنٌ ركين، لا تقوم الخلية إلا به، إلى درجة
أن وصمت كل خلية بخيالٍ وظل صاحبيه (الذكورة والأنوثة)،
تتسم كريات دمه، بيضاء وحمراء، بكل الصفات التي وصفها أهل العلم بالجينات.
قالت الأسطورة، كما روي عن شهرزاد، أن الجنسين كانا في الأصل متلاصقان،
إذ ظهر ذلك جليًا، منذ العصر الطباشيري، أي العصر الذي اعتادا فيه الكتابة بالطباشير،
بكتابة الرسائل الغرامية لبعضهما البعض،
ولم تنص (الأسطورة) على كيفية التلاصق، نصًا صريحا،
ففسر بعضهم أنهما كانا متجاوران، وقال آخرون أنهما كانا خلف خلاف،
لا يرى أحدهما الآخر إلا في مياه النهر، لكن المفسرين اتفقوا
على أن المشاعر والأحاسيس كانت مشتركة بينهما،
وإن كان لكلٍ واحد منهما قلبٌ مستقل، كما لكلٍ منهما عينين، وأذنين، وشفتين، وهلم جرا.
أسمى الحكماء الذكر رجلًا، كما اسموا نصفه الآخر امرأة، بوحيٍ من الآلهة،
فكانا متساويان في الطول والعرض والقوة والملامح، تقاسما الجمال،
ولم يفق أحدهما الآخر، ولم يكن أمامهما إلا أن يسكنان في كهفٍ واحد،
على مرأى ومسمعٍ من الشيطان، فكانا يتجولان في الغابة، يلتهمان الفاكهة معًا،
وما كانت الأحاديث بينهما تتجاوز وصف الغابة وأشجارها، وجمال ثمارها،
وحلاوة طعمها، وما يتسلل قي الغابة من حيواناتٍ وما يحلق في سمواتها من طيرٍ،
وما يتنقل بين أغصانها بخفةٍ كالقرود، وما يثير بينهم الشقاق بمكره ودهائه كالثعلب،
وما يجور على غيره آكلًا هانئًا كالأسود والنمور، إلى أن أصبحت أحاديثهما مملةٌ ومكررة،
فما كان أمامهما إلا وصف من يشاركهما الغابة من نفس نوعهما،
ذكورًا وإناثًا، فكانت خير تسلية لهما، هي الغيبة والنميمة،
وللأسطورة وصفٌ دقيق في وصف نبرات الصوت التي تعتري الإناث،
عندما تصف الذكور، وابتهاج الذكور إذا ما وصفوا الإناث،
فنشأت الغيرة في قلبيهما سواءً بسواء، بفعل أحاديثهما، التي نمت،
وكبرت وازدهرت، فكانت منشأ الخلاف بين الرجال والنساء ظاهرً وباطنا.
تباهى الرجل بقوة ساعديه، التي بدت واضحةٌ للعيان، فردت المرأة
أن مرجع ذلك بسبب يده التي يمدها كثيرًا، إلى أبعد من قامته،
فوصفته بطويل اليد، من كثرة الامتداد، في حين أنه تباهى بطول يده
واصفًا ومادحًا نفسه بالرجل االطموح، زادت الشقة بينهما والفرقة،
بسبب المشي والتجوال كثيرًا، فكان الرجل هو الرائد في أكثر الأحيان،
وكثرًا ما خالفته، ولم تطاوعه في مسيره، إلا أنه كان ينفذ مشيئته،
فكانت له الغلبه في اتجاه السير، وطول المشوار، فقويت ساقاه، اللتان تحملانه،
وتجر في أغلب الأوقات المرأة التي تشاركه الجوار، أو يحملها على ظهره
إذا ما تظاهرت بالنوم أو المرض.
صار يتباهى بكثرة ما يأكل، بينما هي تتمنع عن أكل كل ما يقابلها،
وتتباهى بانتقاء ما تأكل، وكانت تبرهن على صدق قولها، بما ظهر عليها من جمال،
لم يحظ الرجل إلا بالجزء اليسير منه، فأضافت المرأة إلى تباهيها بالجمال،
مخالفتها له في السير والرأي إلا قليلًا،
وهذا ما أطلق عليه الحكماء والمفسرون للأسطورة،
بأنه الدلال، الذي يعجب الرجل حينًا، وبفقع مرارته قي أحيانٍ كثيرة.
كثر تباهي الرجل بكثرة ما يأكل، فتباهت المرأة بجمال ما تأكل وإن قل في كميته،
فمالت إلى التوت والفراولة والكرز، وما نضح على جسدها عطرًا طبيعيًا،
زادها عبقًا وأريجا، بينما مال الرجل لتسلق الأشجار والنخيل، الذي أرهقها كثيرًا،
كلما تاقت نفسه إلى ثمرة جوز الهند مثلًا، فكان يرتوي من ماء تلك الثمار،
ويذوب عشقًا في طعمها، بينما تكتفي المرأة باليسير منها، الذي لا يتجاوز اللحسة،
وتبلل كفيها فتدهن بهما وجهها وشعرها، وربما دهنت به سائر جسدها،
مما زاد شعرها نعومةً وبريقًا، وزاد بشرتها رونقًا وملاسة، وجمالًا ونعومةً،
لا يصل الرجل ببشرته إلى معشارها، فالتمس لنفسه الأعذار،
فانقلب على شريكته واصفًا تلك الظاهرة بالميوعة.
كان شرب ماء جوز الهند بالنسبة للرجل للارتواء، يذهب بلبه حلاوة مذاقها،
يكسر حية جوز الهند بقبضة يده القوية، بدق ثمرة جوز الهند دقة واحدة في جذع النخلة،
بعد قطعها بيديه وأسنانه، يرفعها إلى فمه سريعًا، هنيئًا مريئًا، يعقبه تجشوء،
تعافه المرأة، وتصفه بالجلافة، وما فتئ الرجل يدافع عن طباعه التي لا تتقبلها المرأة،
فصار يصف سلوكه بالرجولة والخشونة، بينما هي لا تتعدى في نظرها الجليطة،
فأطلقت عليه أنه رجلٌ جلياط.
ومع مرور الأيام، تعدى وصفها له بالجليطة، فحمل الكثير من الألقاب التي نعتته بها،
فهو السمج ثقيل الظل، الغتت الذي يؤذيها بأصواته المنفرة وهو يشرب الماء،يقرقر من حلقه، فهو المقرقر، المزعج، إلى أن طفح قاموس المرأة بكل فظاظة الرجل،وثقل دمه، وما يحمله من سماجة، ولهوجةٍ وؤعونة تدفعه إلى تسلق النخيل،قبل أن يصير البلح رطبًا جنيًا، يسقط من تلقاء نفسه، كما وسمته بقلة الذوق،كفاه أنه يأكل الفريسة بشحمها، بينما هي لا تأكل منها إلا أقل القليل،
فأسمت ما تأكله بأنه حلويات، بينما هو رمرام، مفجوع، وكأنه محروٌ مأروم.
وكلما تباهى الرجل بنمو جسده، ردت عليه بأنه منفوخ على الفاضي،
واستمرت الأيام في مرورها، وحمل معها الرجل من الألقاب ما يضايقه ويضجره،
ولم يقف مكتوف الأيدي، فحملت على يديه ألقابًا كثيرة، منها الدلوعة، والمايصة،
وناكرة الجميل، وأم برش، وياما تحت السواهي دواهي، وأم عجيزة (ذات المؤخرة)،
وأم كلثوم (ممتلئة الخدين والوجه)، والهركولة (ممتلئة الوركين)،
فمال لمراقبة الأخريات اللاتي يعجبه فيهن جمالهن وحسنهن،
ولم يسبق لهن وصفه بما تصفه به رفيقة دربه.
تقول الأسطورة أن عين أحدهما زاغت، فأشاعت المرأة عن الرجل
أنه أبو عين زايغة، بينما رد عليها الرجل، أنها تريد أن تدور على حل شعرها،
إذ كان يجبرها على ربط شعرها كذيل الفرس، الذي يغطي أكتافه،
تمامًا كما يغطي أكتافها، وليس لها من سبيل إلى الدوارة على حل شعرها
إلا بالانفصال عنه، فطلبت من الآلهة الانفصال عنه، وحملته جريرة الالتصاق،
ومرارة المذاق الذي تعانيه من صحبته، فقالت له اخلعني يا موكوس،
وخذ ما شئت من الفلوس، فيرد عليها هازئًا: الأمر بيننا مناصفة،
وإياكِ أن تخلعيني، رغم أن أمر التصاقهما، لا ناقة له فيه ولا جمل.
وهنا أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح، فزغدها شهريار ولكزها
(كعادته كي تكمل حديثها حينًا، ولتكف عن الكلام في أحيانٍ كثيرة) قائلًا:
أهذا وقت نومٍ، والمرأة تطلب الخُلع، والرجل في فزعٍ وهلع؟
أجابته شهرزاد، لقد قرأت كل ما جاء بالوريقات التي تروي عن الأسطورة،
من الألف إلى الياء، ولم أعثر على نهاية لها، إلا أن الآلهة فرقت بينهما،
فانفصل كل جزءٍ منهما عن الآخر، وتاه كل واحدٍ منهما عن رفيقه،
في زحمة الحياة، فما وجد أحدهما ما يروق له كما وجد من رفيق دربه،
فاكتفي كل نصفٍ منهما بما يروق له بعض الشئ، وفي أعماقه
أنه اختيارٌ إلى حين، ولتصنع الأيام ما تشاء.
سألها شهريار عن المكان الذي عثرت فيه على هذه الوريقات،
فأنبأته أنها عثرت عليها في موسم الجفاف، في العام الثالث من أكل الضب،
الموافق اليوم الخامس من قزقزة اللب، على نغمات أصوات تفشير الفول السوداني،
بعد اكتشاف تحميصه، وتمليحه، تحت الجرف القبلي، من الناحية الشرقية،
في بحري البلد، ويبدو أن الجرف قد انهار في موسم من مواسم الفيضان،
ثم تثاءبت قائلة: تصبح على خير يا شرشر، وفي سرها، يا أبو عين زايغة،
فرد عليها قائلًا، وأنتِ من أهله يا شهر، وبصوتٍ خافتٍ يكاد لا يسمع:
وأنتٍ من أهله يا بنت المخلوعة.